مقالات للكاتب

محمد فضل الله

الثلاثاء 14 كانون الثاني 2025

شارك المقال

ليس وقت إعادة القراءة بل إعادة التأسيس


بعد بدء الحرب في غزة ولبنان، توقّفتُ عن نقد حزب الله لسببَين (بمعزل عن سبب أساسي وهو سبب عاطفي، «إنّ واعية الحسين كَسرتْ قلبي»):
الأول، أن وقت إعادة القراءة كان قبل الحرب وقبل الضربات التي تلقّتْها المقاومة؛ فكرة النقد وإعادة القراءة بعد النكسات عادة ما تكون ردّ فعل غير منهجي، وتكون نتيجتها نوعاً من رفض كل ما سبق وتكون النكسة «دليلاً» يُؤتى به كيفما اتفق لإثبات صحة الرأي. على العكس تماماً، النقد ما قبل النكسة هو الأقدر على فهم الوقائع دون شعور بضغط لحظة الانكسار (بغضّ النظر عن أن نقداً كهذا كان نادراً في حينها أو خطابياً غير منهجي). ما هو نوع «الحقائق» التي لم يكن في الإمكان اكتشافها قبل الحرب وباتت ممكنةً الآن؟ ليست حقائق بقدر ما هي تداعٍ حرّ للهواجس أو توليف عبارات وجُمل لمجرد ملء الفراغ الخطابي بشأن الأحداث (على الأرجح من أفراد كانوا يَرفضون أي نوع من القراءة غير الرسمية). وحتى في حال أردنا كتابة نقد ما بعد الأزمة، فعلينا أن نَستغني عن نمط الأسئلة البحثية التي كانت جزءاً مساهماً في الأزمة من موقع النقد المفترَض؛ بدل السؤال «هل كان على حزب الله أن يطوّر سياسة سنّية كي يتفادى ما حصل؟»، والذي سيَخلص بطبيعة الحال إلى نتيجة مفادها أنه كان على حزب الله أن يطوّر سياسة سنّية، علينا أن نَسأل «لماذا لم يتمكّن حزب الله من تطوير سياسة سنّية؟» (بشكل عام، «هل» لا تَصلح لتكون إشكالية جيدة لبحث) وتحليل ذلك من منطلق منهجي مرتبط بمؤسسات إنتاج المعرفة.


سأتطرق إلى مسألة إعادة التأسيس المفاهيمي الموازي لإعادة التأسيس الإداري، ولكن ماذا تَعني المطالبة بمصالحة العالم السني الذي انتهى؟ يمكن القول إن مجتمع قطاع غزة كان المجتمع السنّي الأخير. حجم الشلل الذي رأيناه في العالم العربي والإسلامي/السنّي خلال حرب الإبادة في قطاع غزة يُشير إلى مجتمعات لم تعد موجودة؛ كان أبو عبيدة ينادي مجتمعات منقرضة. كيانات كالعالم السنّي أو العالم الإسلامي والعربي وحتى القطريات لم تعد موجودة، ومن غير الواضح ما الذي حلّ مكانها أو ما إذا كان سيحلّ أي شيء مكانها. إذْ يُحيلنا ذلك إلى نموذج مشابه وإشكالي آخر، وهو اختفاء أفريقيا والسياسة الأفريقية: كان المزيد من الحديث عن الحقوق المدنية والسياسية للأميركيين السود يتزامن مع المزيد من التهميش لأفريقيا نفسها، وتتمّ إعادة تشكيل الدراسات النقدية للسلطة لتُجيب عن أسئلة مرتبطة بالأميركيين السود كممثلين، ولاحقاً كبدلاء عن أفريقيا نفسها التي تبدو كما لو أنها لا تَملك أي حقوق يمكن المطالبة بها ولا يسودها أي نوع من السياسة. لذلك، إن ما قام به الأميركيون العرب والمسلمون خلال الحملة الانتخابية الرئاسية كان جيداً بلا شك، ولكنه يَحمل مخاطر أن يصبحوا بدلاء عن العالم العربي والإسلامي نفسه، وأن اندثار الإسلام السياسي السنّي (على الأرجح فإن مآلات الإسلام السياسي الشيعي مرتبطة بديناميات مختلفة سأتحدث عنها في السبب الثاني) واندثار العروبة والقطرية الذي نَشهده حالياً هو عملية استبدال مرتبطة بالجالية الموجودة في الولايات المتحدة، وبالتالي ليس علينا أن نَنتظر ولادة ما بعد العروبة وما بعد القطرية وما بعد الإسلام السياسي السنّي، لن يكون هناك ولادة لأي شيء من بعدها سوى الشلل الشامل، تماماً كما هو حال السياسة في أفريقيا.

إذا كانت إعادة التأسيس الإدارية واضحة، يبقى السؤال عما إذا كان هناك إمكانية لإعادة تأسيس مفاهيمية؟


فعلياً الحزب في حالة إعادة تأسيس، بمعنى أن عدد القياديين والإداريين الذين استُشهدوا أو أصيبوا يجعل حزب الله في المرحلة المقبلة يبدو كما لو أنه جناح من الحزب القديم وقد انشقّ عنه. بالتالي هنا ليست دعوة إلى إعادة التأسيس بقدر ما هي وصف لحالة قائمة بالفعل. وإذا كانت إعادة التأسيس الإدارية واضحة، يبقى السؤال عما إذا كان هناك إمكانية لإعادة تأسيس مفاهيمية؟ سؤالُ لماذا لم يتمكّن حزب الله من إنتاج سياسة، واقتصاد، وفكر وغيرها، يَنطبق على كلٍّ من إيران والصين وروسيا وكل الدول المناهضة للولايات المتحدة: معظم هذه الدول والقوى كان لديها في البدء رغبة في إنتاج علوم إنسانية مستقلة أو أكثر تفوقاً حتى من نظيرتها الأميركية (أو التي يسميها البعض «الغربية»)، لكن الإنتاج الفكري هو مسار معقد ومكلف مادياً، وكانت هذه القوى الاستقلالية تجد مع الوقت أن في مجال المفاهيم المعادية للإمبريالية والرأسمالية وغيرها يمكن الاعتماد على ما يُنتِجه قسم الأدب في الولايات المتحدة فيها. أي إنه حين تَبدأ خطواتنا الأولى في الإنتاج المعرفي بالتعثُّر (نتيجة لأنها ليست عملية خطية) تَجد الإدارة البراغماتية أنه ليس هناك من داعٍ لإنتاج الأفكار في جامعاتنا (أو الترانس-جامعات التي لدينا)، فما نجده في قسم الأدب في الولايات المتحدة والدراسات النقدية المرتبطة به كافٍ (هنا إشكالية مَنْ يَعتقدون أن العبارات لها معنى خارج السياق المؤسساتي الذي تَنشأ فيه).

في البداية يجدون أن استخدام هذه العبارات المنتَجة في الجامعات الأميركية فعّال ويسهِّل عليهم التواصل مع قوى استقلالية متنوعة حول العالم، لكن بعد مدة تَبدأ الإستابلشمنت في الولايات المتحدة، التي تَملك مؤسسات إنتاج هذه المعارف النقدية، بإعادة توجيه هذه المفاهيم مؤسساتياً وجعلها غير فعّالة في التداول (شرحنا في مقال سابق كيف أن كل مفاهيم نقد الإمبريالية والاستشراق عُلِّقتْ في حرب غزة بتواطؤ مع قسم الفلسفة التحليلي في الولايات المتحدة الذي سُمح له بـ«استدارة سياسية» وتحويل التوتُّر الأقسامي-الإبستيمولوجي القائم مع قسم الأدب حول تعريف ما هو سياسي إلى حرب إبادة في غزة)، وهنا تُفاجَأ القوى المناهضة بأن استخدامها لهذه المفاهيم لم يعد مجدياً كما كان قبلاً، ويَجدون أنفسهم في حالٍ من الفراغ الفكري، لا هم قادرون على إنتاج أفكار (كان يجب إنتاجها قبلاً) ولا هم قادرون على التواصل مع التنوُّع الذي كان ممكناً قبلاً. لذلك، إن الأولوية بالنسبة إليّ هي أولوية التفاوض حول مَنْ يُنتِج معرفةً عن مَنْ وعن ماذا، نضالنا نضال أقسامي بالدرجة الأولى.


السبب الثاني لتوقفي عن نقد حزب الله: لم يعد هناك مخاطر ولادة سلفية شيعية. لم يكن همّي يوماً أخلاقوياً (أسئلة كان يَطرحها مَنْ كانوا يسمّون أنفسهم نقاداً من قبيل «لماذا لا يهتمّ حزب الله بالناس العاديين؟»). أن تَرتفع أسهم دولة أو أمة أو جماعة ثم تَنخفض ثم تَرتفع في لحظة ما، هي جزء من مسار طبيعي للتاريخ، ما كان يُقلقني دائماً هو احتمال ولادة سلفية شيعية في اللاحق من الأزمان؛ أي أن يكون النظر في المستقبل إلى مرحلتنا الحالية نظراً طوباوياً مليئاً بالانتصارات، وحين تَبدأ الانتكاسات بالحصول بعد خمسين عاماً مثلاً، يكون السؤال «لماذا تمكّنا في حينها من تحقيق انتصارات ولا يمكننا اليوم؟»، فتكون إجابة جزء من الشيعة لاحقاً إن التمسُّك بالقوة العسكرية الصرفة والعودة إلى العقل الأمني هو الحلّ مثلاً، أو أنه يجب أن نُعيد إنتاج السيد حسن نصرالله مرة أخرى، فيَنبري ثلاثون أو أربعون شخصاً لتقمُّص شخصيته وهيبته، ويُفاجَأون بأن ذلك لا يَستجلب نتيجة إيجابية. هذه هي أزمة السلفية السنّية: «حين كنا متمسّكين بالقرآن والسنّة النبوية كنا إمبراطورية هائلة». اليوم، وبعد أن استُشهد السيد رحمة الله عليه نتيجة خلل وَقَع في ظل إدارته، لم يعد في الإمكان ولادة سلفية شيعية بعد مئة أو مئتي عام؛ هذا بالنسبة إليّ كافٍ لبدء التفكير في ما يمكن أن نَفعله من الآن فصاعداً وبالبناء على نقاط القوة التي أسّسها حزب الله دون أوهام مرافقة.


تصدّي المقاتلين في الجنوب في ما سُمي «العملية البرية» كان نموذجياً، ويمكن البناء عليه حتى في بعض المفاهيم حول إمكانية اللامركزية ضمن التنظيم (لا أتبنّى اللامركزية، ولكن الفكرة هي أن ما جرى يمكنه إطلاق نقاش في اتجاهات كانت مستحيلة قبلاً). اكتشفنا أن عقل المؤسسة الأمنية هَيمن على كل المؤسسات ما عدا على المؤسسة الأمنية نفسها؛ تنظيم مهووس برؤية التدخلات الأمنية في كل حدث سياسي ويَرفض أن يقدّم تحليلاً منهجياً لا-أمنياً للوقائع، ثم في نهاية المطاف يَستقدم أجهزة من تايوان بالشكل الذي رأيناه. هذا العقل الأمني (أو بالأحرى متحوّرات العقل الأمني) هو الذي استجلب أشخاصاً كوئام وهاب وسالم زهران وغيرهما، إذْ إن هذا النمط من الأفراد مرغوب جداً لدى الأجهزة الأمنية والذين يتبنّون التفكير الأمني (في كل شيء ما عدا في الشؤون الأمنية نفسها).

هذه أخطاء مؤسساتية وليست إدارية، أي ليست مرتبطة بقرارات شخص بعينه: كل مؤسسة لديها منطق عمل لا يمكن للأفراد المسؤولين تغييرها حتى لو أرادوا، لذلك هناك مشتركات نظرية في طريقة عمل أجهزة الاستخبارات من الولايات المتحدة إلى الصين وروسيا وإيران وإسرائيل وغيرها، ولكن حجم توسّع الجهاز الأمني ومنطقه خارج نطاق مجاله المباشر يَختلف من دولة إلى أخرى. منذ مسألة العميل شوربا كان يجب أن يكون هناك إعادة قراءة جذرية ونقاش أشمل حول الجهاز الأمني ومنطقه. حتى في الولايات المتحدة لم يكن ممكناً إنتاج فكر يمكن للإستابلشمنت استخدامه ضدنا في الأطراف في ظل جاي إدغار هوفر والماكارثية؛ أَدركتْ الإستابلشمنت ذلك مبكراً وقَلّصتْ من الجهاز الأمني، وبَنتْ لنا ما هو أسوأ: قسم الدراسات الأمنية «security studies» (جزء من قسم العلاقات الدولية في الجامعات الأميركية)، سنتحدث عنه لاحقاً.

* باحث

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي